الرسالة 2: …مِنْ قَلْبِ الكِيَانِ
رسائلُ مِنْ فَوْقَ الأَرْضِ 2: …مِنْ قَلْبِ الكِيَانِ
إلى: المُجْتَمَعِ اللُبْنَانِيّ
إِنَّهَا لَحْظَةُ أَلَمٍ وَقَسْوَةٍ. عُيُونُنَا مُرْهَقَةٌ مِنَ النَّظَرِ إِلَى المَوْتِ وَالدَّمَارِ، يَبْدُو لِوَهْلَةٍ أَنَّنَا لَمْ نَعُدْ نَقْوَى عَلَى الرُؤْيَةِ لِكَثَافَةِ الدُّخَانِ وَغُبَارِ الرُّكَامِ. فِي ذَلِكَ الغَمَامِ نُبَحْلِقُ، فِي رَمَادِ التَّارِيخِ، فِي بَقَايَا الأَجْسَادِ المُتَفَتِّتَةِ الَّتِي تُحَاوِلُ أَنْ تَجْتَمِعَ بِدِمَائِهَا، نُبَحْلِقُ. يَكْشِفُ المَوْتُ عَنْ حَقِيقَةِ الوُجُودِ الأَبَدِيَّةِ. يَبْدُو لِلَحْظَةٍ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدِ انْتَهَى.
فِي تِلْكَ النِّهَايَةِ نَسْتَغْرِقُ، نَغْرَقُ، ثُمَّ نُحَاوِلُ التَّنَفُّسَ وَكَأَنَّهُ النَّفَسُ الأَخِيرُ. مَعَ ذَلِكَ النَّفَسِ تولَدُ آخِرَ مُكَوِّنَاتِ الوُجُودِ، أَبْسَطَ مَلَامِحِ الحَيَاةِ. البَعْضُ يُسَمِّيهِ الأَمَلُ. الأَمَلُ مُجَرّدُ تَمَنِّي. مَا يَبْقَى فِعْلًا هُوَ الإِمْكَانُ. يُولَدُ الإِمْكَانُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِنَا كَمُشَاهِدِينَ، كَمُلاَحِظِينَ، كَنَاظِرِينَ، كَمُسْتَمِعِينَ، كَمُسْتَشْعِرِينَ. وَمِنَ الإِمْكَانِ يُوَلَدُ احْتِمَالٌ، فَتُولَدُ حِكَايَةٌ وَيَبْدَأُ تَارِيخٌ.
تَعَوَّدْنَا فِي لُبْنَانَ عَلَى رُؤْيَةِ الحَيَاةِ فِيْ الرَّمَادِ، كَانَ ذَلِكَ فَخْرَنَا يَوْمًا وَكَانَ مَحَطَّ تَهَكُّمِنَا يَوْمًا آخَرَ. أَحْبَبْنَا فِيْ أَنْفُسَنَا تِلْكَ القُدْرَةِ وَكَرِهْنَا أَنْفُسَنَا بِسَبَبِهَا. تَمْتَلِكُنَا هَاتَانِ القُوَّتَانِ. نُحِبُّ لُبْنَانَ وَنَكْرَهُهُ. نَتُوقُ إِلَى الهِجْرَةِ وَنَعْشَقُ العَيْشَ هُنَا. لُبْنَانُ جَنَّةٌ عَلَى الأَرْضِ وَهُوَ كَوْمَةُ نُفَايَاتٍ. لُبْنَانُ التَّعَايُشُ وَلُبْنَانُ الفَوْضَى. لُبْنَانُ التَّنَوُّعُ وَلُبْنَانُ الاقْتِتَالُ. نَنْظُرُ إِلَى هَاتَيْنِ القُوَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا قُوَّتَانِ تَدْمِيرِيَّتَانِ. نَتْعَبُ. نَسْتَسْلِمُ حِينًا وَنَيْأَسُ. نَهُبُّ حِينًا آخَرَ مَشْحُونُونَ بِالكَرَاهِيَةِ. نَتْبَعُ أَمْ نُهَاجِرُ. وَهَكَذَا.
نَنْظُرُ في تَعْبِيرِنَا الثَّقَافِيِّ، في مُوسِيقَانَا وَأَغَانِينَا، في تَمَثُّلَاتِ هُوِيَّتِنَا: فِي العَلَمِ اللُّبْنَانِيِّ، فِي النَّشِيدِ الوَطَنِيِّ. نَنْظُرُ فِي أَيْدِيُولُوجِيَّاتِنَا السِّيَاسِيَّةِ وَالحِزْبِيَّةِ وَالعَقَائِدِيَّةِ. إِنَّهُ التَّنَاقُضُ عَيْنُهُ. فِي العَلَمِ حَيْثُ الدَّمُ الأَحْمَرُ خَطَّانِ لا يَلْتَقِيَانِ، وَكَأَنَّ الدَّمَ دَمَانِ. الأَحْمَرُ النَّارِيُّ فِي مُقَابِلِ الأَبْيَضِ الثَّلْجِيِّ. أَخْضَرُ الشَّجَرَةِ فَوْقَ الثَّلْجِ وَالنَّارِ. لُبْنَانُ الجَبَلِ وَالبَحْرِ. "بَحْرُهُ بَرُّهُ". "شَيْخُنَا وَالفَتَى". "سَيْفُنَا وَالقَلَم". القَرْيَةُ وَالمَدِينَةُ. القَرْيَةُ فِي المَدِينَةِ وَالمَدِينَةُ فِي القَرْيَةِ. لُبْنَانُ الأَرْضُ وَ"قطْعِة سَمَا". لُبْنَانُ الصَّغِيرُ وَ"وِسْعْ الدِّنِي". لُبْنَانُ العَرَبِيُّ وَلُبْنَانُ الفِينِيقِيُّ. لُبْنَانُ المَحْدُودُ وَلُبْنَانُ الأُمَمِيُّ. لُبْنَانُ الدَّوْلَةِ وَلُبْنَانُ الطَّائِفَةِ. لُبْنَانُ الطَّائِفِيُّ وَلُبْنَانُ العِلْمَانِيُّ. لُبْنَانُ الإِسْلَامِيُّ وَلُبْنَانُ المَسِيحِيُّ. لُبْنَانُ المُقِيمِ وَلُبْنَانُ المُهْجَّرِ. لُبْنَانُ الزَّعِيمِ وَلُبْنَانُ المُؤَسَّسَاتِ.
نَنْظُرُ فِيْ تِلْكَ التَّنَاقُضَاتِ. نَرَى كَمْ مَرَّةً تَمَوْقَعْنَا فِي دَاخِلِهَا، كَمْ مَرَّةً نَاضَلْنَا وَاخْتَلَفْنَا وَتَقَاتَلْنَا. مِنْ خَسَارَاتِنَا، مِنْ فِقْدَانِنَا، مِنْ يَأْسِنَا، مِنْ مَوْتِنَا نَنْظُرُ، نُلَاحِظُ أَبْسَطَ الإِمْكَانِ: اسْتِمْرَارُنَا فِي خَلْقِ الاحْتِمَالِ وَالحَيَاةِ. فَيَتَحَوَّلُ التَّنَاقُضُ إِلَى تَضَادٍّ، وَتَبْدَأُ حِكَايَةٌ جَدِيدَةٌ. لُبْنَانُ اليَوْمَ دَوْلَةٌ بِعُمْرِ المُرَاهَقَةِ تَبْحَثُ عَنْ تَحْقِيقِ ذَاتِهَا. أَيُّ إِمْكَانٍ؟ أَيُّ احْتِمَالٍ؟ مَا هِيَ القُوَى الكَامِنَةُ الَّتِي مَنَعَتِ ذَلِكَ الكِيَانِ مِنْ أَنْ يَتَسَطَّحَ؛ أَنْ يَحْكُمَهُ مَنْطِقٌ وَاحِدٌ؟ كَيْفَ تَمَكَّنَ مِنْ تَرْكِ مَسَاحَاتٍ، وَلَوْ هَشَّةٍ، لِلِاخْتِلَافِ وَعَدَمِ سِيَادَةِ مَنْطِقِ الإِلْغَاءِ الكُلِّيِّ؟ كَيْفَ تَمَكَّنَ مِنْ خَلْقِ دَيْمُومَةٍ لِلْحَيَاةِ؟ كَيْفَ دَارَ وَاسْتَدَارَ فِي التَّارِيخِ كَيْ يَجْتَازَ مَرْحَلَةَ الطُّفُولَةِ وَالمُرَاهَقَةِ؟
نَلْتَفِتُ إِلَى المُجْتَمَعِ. نُلَاحِظُ. حِينَ بَدَأَ انْهِيارُ النِّظَامِ المَالِيِّ، وَثَارَتِ النَّاسُ، وَلَحِقَتْهَا جَائِحَةُ كُورُونَا، وَانْهَارَتِ العُمْلَةُ، وَحَدَثَ التَّفْجِيرُ الإِجْرَامِيُّ فِي مَرْفَأِ بَيْرُوتَ، وَخَسِرَتِ النَّاسُ أَمْوَالَهَا، وَوَقَعَ الكَمُّ الكَبِيرُ مِنَ النَّاسِ تَحْتَ خَطِّ الفَقْرِ، وَأُفْرِغَتْ مُؤَسَّسَاتُ الدَّوْلَةِ مِنْ إِمْكَانِيَّتِهَا، وَضَعُفَتِ القُوَى الأَمْنِيَّةُ فِي قُدُرَاتِهَا وَعَدِيدِهَا… تَوَقَّعْنَا انْهِيارَ المُجْتَمَعِ وسِيَادَةَ الفَوْضَى وَالسَّرِقَاتِ وَالجَرَائِمِ. مَضَتِ الأَعْوَامُ وَمُعَدَّلُ الجَرِيمَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ. نُقَارِنُ مَعَ الدُّوَلِ الَّتِي تَحْكُمُهَا سِيَادَةُ السُّلْطَةِ وَالأَمْنِ لِنَرَى أَنَّ لُبْنَانَ مِنْ بَيْنِ الدُّوَلِ الأَكْثَرِ أَمْنًا عَلَى المُسْتَوَى الاجْتِمَاعِيِّ. كَيْفَ حَمَلَ ذَلِكَ المُجْتَمَعُ تِلْكَ المَرْحَلَةَ وَاحْتَوَاهَا؟ نَنْظُرُ إِلَى الشَّوَارِعِ، إِلَى تَقَاطُعَاتِ الطُّرُقِ، رَغْمَ غِيَابِ الشُّرْطَةِ وَإِشَارَاتِ المُرُورِ، رَغْمَ التَّوَتُّرِ الَّذي يُرَاوِدُنَا كُلَّمَا اقْتَدْنَا سَيَّارَاتِنَا، نَسِيرُ وَنُسَيِّرُ غَيْرَنَا. فِي كُلِّ أَزْمَةِ سَيْرٍ نَرَى عَدَدًا مِنَ المُوَاطِنِينَ تَحَوَّلُوا إِلَى وُسَطَاءِ لِتَسْيِيرِ السَّيْرِ وَإِيجَادِ المَخَارِجِ. تَحْتَ السِّبَابِ وَرَشَقَاتِ الصُّرَاخِ نَعْبُرُ وَنُعْبِرُ.
نَتَسَاءَلُ، أهُوَ مُعْجِزَةٌ؟ كَلَّا، وَلَيْسَ بِأُسْطُورَةٍ. لَيْسَ مَحَلَّ فَخْرٍ وتَبَاهٍ بِشَخْصِيَّةِ اللُّبْنَانِيِّ الذَّكِيِّ المُتَفَلْذَكِ المُسْتَقِلِّ الَّذِي لا يَعْبَأُ بِسَقْفٍ لِلْقَانُونِ فَوْقَ رَأْسِهِ. لَسْنَا هُنَا لِرَسْمِ رُومَانْسِيَّاتِ الصُّمُودِ اللُّبْنَانِيِّ وَ"أُسْطُورَةِ" بَقَائِهِ. نَنْظُرُ كَيْ نَرْصُدَ تِلْكَ القُوَى الكَامِنَةَ فِي مُجْتَمَعِنَا، كَيْ نَتَلَمَّسَ إِمْكَانَ وُجُودِنَا مِنْ جَدِيدٍ. عَلَى مَاذَا نَبْنِي؟ مَا مَعْنَى حُضُورِنَا السِّيَاسِيِّ؟ أَيُّ لُبْنَانَ نُرِيدُ وَإِلَى أَيِّ لُبْنَانَ نَنْتَمِي؟
نَنْظُرُ جَنُوبًا، نَرَى نَمُوذَجًا آخَرَ لِكِيَانٍ بِعُمْرِ المُرَاهَقَةِ. يُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ عَلَى أَسِرَّةِ كِبَارِ السِّنِّ وَمَهْدِ أَطْفَالٍ خُدَّجٍ، يُدَعِّمُ أَسَاسَاتِهِ بِجُثَثِهِمْ. كِيَانٌ يَقُومُ عَلَى سَرْدِيَّةٍ دِيْنِيَّةٍ اصْطَفَى فِيْهَا اللهُ شَعْبَهُ وَاخْتَارَهُ وَحْدَهُ. كِيَانٌ سَلَخَ يَهُودَ المِنْطَقَةِ عَنْ حُضُورِهِمِ الطَّبِيعِيِّ التَّارِيخِيِّ المُجْتَمَعِيِّ، ويَتَفَاخَرُ بأَنَّهُ يَحِلُّ مَحَلَّ مُجْتَمَعَاتٍ مُتَخَلِّفَةٍ هَمَجِيَّةٍ بَرْبَرِيَّةٍ حَيَوَانِيَّةٍ. كِيَانٌ لا يَعْتَرِفُ بِحُدُودٍ نِهَائِيَّةٍ لِدَوْلَتِهِ، يَمْتَلِكُ قُنْبُلَةً نَوَوِيَّةً، ويُسَوِّقُ لِفِكْرَةِ أَنَّ مَجْمُوعَاتٍ مُسَلَّحَةً صَغِيرَةً بِجِوَارِهِ قَادِرَةٌ عَلَى إِبَادَتِهِ، بَيْنَمَا يُمْعِنُ فِي إِبَادَةِ شَعْبٍ وَذَاكِرَةٍ.
نَنْظُرُ مُجَدَّدًا إِلَى حَالِنَا، إِلَى كِيَانِنَا السِّيَاسِيِّ، إِلَى حُضُورِنَا المُجْتَمَعِيِّ. نَرَى أَنَّ مَشْرُوعًا كَذَاكَ يَقِفُ عَلَى نَقِيضٍ مِنْ بُنْيَانِنَا التَّارِيخِيِّ الثَّقَافِيِّ الحَضَارِيِّ المُجْتَمَعِيِّ الفِكْرِيِّ الأَيْدِيُولُوجِيِّ، ومِنْ نِظَامِنَا الطَّائِفِيُّ - الَّذِي لَطَالَمَا نَظَرْنَا إِلَيْهِ كَأَسَاسِ المُشْكِلَةِ. نُبَحْلِقُ في غَمامِ تَارِيْخِنَا وفي غُبَارِ حَاضِرِنَا، نَعِي أَنَّ هُنَاكَ مَصْدَرًا مَا، سَبَبًا مَا، هُوَ حَقِيقَةُ وُجُودِنَا التَّارِيخِيَّةُ: قُوَّةُ تَنَوُّعٍ مُتَضَادٍّ، تَحْمِلُ دَفْقَ الحَيَاةِ وَتَبْعَثُنَا مِنْ جَدِيدٍ. تَظْهَرُ عَلَى وُجُوهِنَا إِمْكَانُ الابْتِسَامَةِ. نَسْتَشْعِرُ الابْتِسَامَةَ فَنَبْتَسِمُ. ابْتِسَامَاتُنَا مُتَضَادَّةٌ. نَبْتَسِمُ سُخْرِيَةً مِنْ قَدَرِنَا، نَبْتَسِمُ لِعَثْثَبِيَّةِ وَاقِعِنَا، نَبْتَسِمُ تَعَبًا، نَبْتَسِمُ أَرَقًا، نَبْتَسِمُ أَلَمًا، نَبْتَسِمُ فَخْرًا، نَبْتَسِمُ أَمَلًا، نَبْتَسِمُ تَكَابُرًا، نَبْتَسِمُ عِزَّةً. مِنْ تِلْكَ الابْتِسَامَةِ نَخْلُقُ الاحْتِمَالَ، مَهْمَا كَانَتْ، إِنَّهَا فِي المُحَصِّلَةِ ابْتِسَامَةٌ. دَفْقُ حَيَاةٍ. إِنَّهَا نَحْنُ.
نَبْتَسِمُ فَنَثِقُ بِوُجُودِنَا. مِنَ المُهِمِّ أَنْ نَبْتَسِمَ لِنَرَى، لِنَرَى مَا نُقَدِّرُ، لِنُقَدِّرَ مَا أَوْصَلَنَا إِلَى هُنَا بِكَافَّةِ صُعُوبَاتِهِ وَانْتِكَاسَاتِهِ وَأَخْطَائِهِ وَإِنْجَازَاتِهِ وَتَضْحِيَاتِهِ. لِنُقَدِّرَ أَنَّنَا لا نُشْبِهُ مَنْ يَتَهَدَّدُنَا. لِنُقَدِّرَ أَنَّنَا لَسْنَا فِي مَكَانَةِ الجَلَّادِ. لِنُقَدِّرَ أَنَّنَا لَسْنَا مُنْعَزِلِينَ بَارِدِينَ حِيَادِيِّينَ لا مُبَالِينَ. لِنُقَدِّرَ أَنَّنَا نَخْتَلِفُ حَوْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَنَخْلُقُ احْتِمَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةً. لِنُقَدِّرَ أَنَّ فِي اخْتِلَافَاتِنَا مَا يُصَعِّبُ مَهَمَّةَ تَسْطِيحِنَا وَتَوْحِيدِ مَوْقِفِنَا فَإِخْضَاعِنَا. لِنُقَدِّرَ أَنَّ تَضَادَّاتِنَا تُؤَدِّي إِلَى أَفْعَالٍ وَنَتَائِجَ مِنْ حَيْثُ لا نَدْرِي. حِينَ نَقْبَلُ أَنْفُسَنَا وَنُقَدِّرُ مَا صَنَعَ اسْتِمْرَارِيَّتَنَا نَخْلُقُ نِظَامًا لا مَثِيلَ لَهُ، مِنْ وَاقِعِنَا.
نَتَشَجَّعُ ونَسْأَلُ مَا المُهِمَّ؟ نَتَذَكَّرُ مَوَارِدَنَا المُجْتَمَعِيَّةَ الغَنِيَّةَ بِذَلِكَ التَّنَوُّعِ وَالتَّضَادِّ وَالتَّلَاحُمِ وَالتَّفَاعُلِ وَالخِلافِ وَالاخْتِلَافِ. نَتَذَكَّرُ أَنَّنَا لَنْ نَكُونَ نَحْنُ نَحْنُ إِنْ تَخَلَّصْنَا مِنْ جَمَاعَةٍ طَائِفِيَّةٍ بِعَيْنِهَا. نَتَذَكَّرُ أَنَّ فِي عَصْرٍ يَرْتَبِطُ فِيْهِ كُلُّ بَلَدٍ صَغِيرٍ بِالتَّمْوِيلِ وَالاسْتِدَانَةِ، قَدْ تُخْلَقُ عِنْدَنَا مَشَارِيعَ سِيَاسِيَّةً تُموَّلُ مِنَ الخَارِجِ. نَتَذَكَّرُ أَنَّهُ كَيْفَمَا أُوجِدَتْ تِلْكَ المَشَارِيعُ هُنَالِكَ أُنَاسٌ خَلْفَهَا مِثْلَنَا تَمَامًا، أُنَاسُ نَسِيجِنَا المُجْتَمَعِيُّ، رَصِيدُ تَارِيخٍ وَثَقَافَةٍ. نَعْمَلُ بِمَا نُؤْمِنُ بِهِ سِيَاسِيًّا وَنُنَاضِلُ مِنْ أَجْلِهِ، فِي المُقَابِلِ نَحْمِي النَّاسَ، المُجْتَمَعَاتِ، العَائِلَاتِ، الأَفْرَادَ. مِنْ فِعْلِنَا هَذَا نُوَلِّدُ الاحْتِمَالَ وَالنُّظُمَ الَّتِي نَتُوقُ مِنْ أَجْلِهَا.
نَعِي أَنَّ عَلَيْنَا التَّمَعُّنَ فِي التّارِيخِ كَيْ نَرَى، فِي الأَفْكَارِ وَالتَّجَارِبِ الَّتِي سَبَقَتْ نُشُوءَ الدَّوْلَةِ، زَمَنَ نِهَايَةِ الإِمْبِرَاطُورِيَّةِ، فِي تِلْكَ الطُّرُوحَاتِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي شَمِلَتِ الفِكْرَ التَّعَدُّدِيَّ لِتَحْمِي الأَفْرَادَ وَالمُجْتَمَعَ وَتُسَيِّرَ الدَّوْلَةَ، طُرُوحَاتٍ أَحْبَطَهَا الاسْتِعْمَارُ بِشَرْعَنَةِ الطَّائِفِيَّةِ كَنِظَامٍ سِيَاسِيٍّ؛ مَدْخَلًا لسِّيَادَةٍ مَنْقُوصَةٍ. نَرَى أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ لِنُنعِشَ حَاضِرَ العَمَلِ السِّيَاسِيِّ بِخَلْقِ تَجَارِبَ جَدِيدَةٍ تَتَخَطَّى الفِكْرَ الاسْتِعْمَارِيَّ، وتَتَخَطَّى مُورُوثَاتِ السُّلْطَةِ الَّتِي تَأَسَّسَتْ عَلَى أَنْقَاضِ الحَرْبِ الأَهْلِيَّةِ. نَرَى أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ لِتَنْفُضَ أَحْزَابُنا السِّيَاسِيَّة غُبَارَهَا وَتَعْمَلَ عَلَى خَلْقِ دِينامِيَّاتٍ وَطَنِيَّةٍ شَامِلَةٍ تَحْمِلُ جَمِيعُهَا فِي مَبَادِئِهَا وَتَكْوِينَاتِهَا التَّنَوُّعَ الاجْتِمَاعِيَّ وَالثَّقَافِيَّ وَالطَّائِفِيَّ وَالمناطِقِيَّ وَالجُغْرافِيَّ وَالطَّبَقِيَّ. نَرَى أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ لِتُطَوِّرَ تِلْكَ الأَحْزَابُ أَدَوَاتِ عَمَلِهَا وَتَخْلُقَ دِينامِيَّاتٍ تَشَارُكِيَّةٍ تُعِيدُ لِلْعَمَلِ السِّيَاسِيِّ مَعْنَاهُ. نَرَى أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ كَيْ نَرَى أَنَّ التَّغْيِيرَ الحَقِيقِيَّ يَبْدَأُ بِالمُمَارَسَةِ، فِي الأَحْزَابِ فِي التَّيَّارَاتِ فِي المَجْمُوعَاتِ فِي العَائِلَاتِ فِي البُيُوتِ، يَبْدَأُ فِي كُلِّ مِنَّا.
فلنَتَعَلَّمْ مِنَ اللَّحْظَةِ، مِنَ المُمارَسَاتِ الَّتِي أَوْصَلَتْنَا جَمِيعًا إِلَى هُنَا. لِنَتَعَلَّمْ بَدَلَ أَنْ نَشْمَتَ وَنَلُومَ، نَتَعَلَّمُ بَدَلَ أَنْ نُكَابِرَ، لِنَتَعَلَّمْ بَدَلَ أَنْ نَنْعِي وَنَشْتِمَ، لِنَتَعَلَّمْ بَدَلَ أَنْ نَأْمُلَ بِالخَلاصِ، لِنَتَعَلَّمْ بَدَلَ أَنْ نَحْكُمَ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالفَشَلِ. نَتَعَلَّمُ لِنَرَى. نَرَى ونُصْغِي ونَتَعَلَّمُ لِتَنْقَشِعَ الرُّؤْيَةُ، يَنْقَشِعُ الإِمْكَانُ فَتُولَدُ أَسْئِلَةٌ جَدِيدَةٌ، أَفْعَال جَدِيدَة، يُولَدُ مَعْنى مَا نَقِفُ مِنْ أَجْلِهِ.
نُغْمِضُ أَعْيُنَنَا. نَسْتَمِعُ إِلَى قَرَارَةِ نَفْسِنَا. إِنَّهَا لَحْظَةُ العَوْدَةِ إِلَى الأَسَاسِيَّاتِ لِحِمَايَةِ مَا تَبَقَّى وَبِنَاءِ مَا سَيَبْقَى. نَعِي أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ لِتَخَطِّي مَبْدَأ الِارتِبَاطِ بِخَارِجٍ مَا، دَوْلَةٍ مَا، مَشْرُوعٍ مَا. نَعِي أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ لِكَسْرِ دَوَّامَاتِ الشَّمَاتَةِ وَتَوْزِيعِ الحَلْوَى عَلَى اغْتِيَالٍ هُنَا وَاغْتِيَالٍ هُنَاكَ. نَعِي أَنَّ مُوَزِّعِي الحَلْوَى قِلَّةٌ. نَعِي أَنَّ قَتْلَ أَيّ شَخْصٍ فِي لُبْنَانَ بِأَيْدٍ خَارِجِيَّةٍ هُوَ تَهْدِيدٌ لِلُبْنَانَ وَتَعَرُّضٌ لِكِيَانِهِ وَخَرْقٌ لِأَمْنِهِ وَإِجْرَامٌ لا مَدْعَاةَ فَخْرٍ وَتَبَاهٍ. نَعِي أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ كَيْ نَعْتَرِفَ بِمَا ارْتَكَبْنَا، بِمَنْ قَتَلْنَا وَبِمَنْ أَخْفَيْنَا قَسْرًا. نَعِي بِأَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ لِنُخْرِجَ مَفْقُودِينَا مِنْ ظُلْمَةِ التَّارِيخِ. نَعِي أَنَّ الوَقْتَ قَدْ حَانَ كَيْ نُقِيمَ جَمِيعُنَا الحِدَادَ عَلَى جَمِيعِ مَوْتَانَا، شُهَدَائِنَا، ضَحَايَانَا. فَلْنُفسِحْ مكانًا لِأَحْزَانِنَا، فَلْنُعَزِّ بَعْضَنَا على آلَامِنَا وَخَسَارَاتِنَا، فَلْنُهَنِّئْ بَعْضَنَا على صُمُودِنَا وَنَجَاتِنَا، فَلْنَدَعْ قليلاً من الصَّمْتِ يَكْسُو تَأَمُّلَاتِنَا، كَيْ يَتَّضِحَ لَنَا مَعْنَى وُجُودِنَا السِّيَاسِيِّ، فَيُولَدُ كِيَانٌ مِنْ قَلْبِ الكِيَانِ.