الرسالة 6: إليكِ أمّي
إليكِ أمّي
لا أخفيكِ سرًّا، صارعتُ كثيرًا قبل أن أنصاعَ لقلمي هذا وورقتي هذه، وقبل ذلك صارعتُ رغبتي في الانصياع لرمي هذا الثقل عن كتفَيَّ. صارعْتُ نفسي. صارعتُ الحقيقةَ، تمامًا كما أصارعُكِ بشكلٍ شبهِ يوميّ. ولا أستغربُ ذلك؛ أيْ لا أستغربُ مصارعَتي رغبَتي في رمْيِ الثقلِ عن كتفَيَّ، فقد علّمتِني، تمامًا كما علّموكِ، أنّ النساء يحملْنَ أثقالًا في أرحامهنّ، وفوق ذلك على أكتافِهنّ، ويبقينَ واقفاتٍ دون أن ينبسنَ ببنتِ شفةٍ، ودون أن يملكْنَ حقَّ التأوّهِ حتّى. فالتأوّهُ والعياذُ باللهِ فعلٌ مذمومٌ، قد يأتي مع المتعةِ أحيانًا. والمتعة؟! والعياذُ بالله أيضًا، فعلٌ حقيرٌ قبيحٌ يُحمَدُ إلى حدٍّ بعيدٍ في عقودٍ شُرّعت خِفيةً أو علنًا.
المهمّ، لا أريدُ الإطالة. فقد أصيبُكِ بالضجرِ من توافِهِ أمورٍ أشغلُ نفسي بها، أنتِ المصابةُ بالضجرِ منها سلفًا. قابلتُ الرغبةَ بالمعصيةِ. أو فلْأقلْ استعضتُ عن رغبتي بالراحةِ بالمعصيةِ، فالرغباتُ غالبًا ما تصاحبُها المتعةُ، والمتعةُ والعياذُ باللهِ، ولتُكملي أنتِ الباقي. أمّا المعصيةُ -التي شغلَتْ حيّزًا غيرَ صغيرٍ في رأسي- فقد ارتبطَتْ لديّ بالقوّة. والقوّةُ على حدِّ علمي واجبٌ عليّ -بصفتي امرأةً- ما حييت. شغلَتِ المعصيةُ حيّزًا غيرَ صغيرٍ في رأسي إلى الحدِّ الذي دفعَني إلى وشمِ التمرّدِ على زندي علَّه يشدُّ أزْري ما بقيَ هذا الجسدُ حيًّا. المعصيةُ لغتُكِ يا أمّي ولغتي التمرّدُ. لم أُدركْ أنّ المعصيةَ جُرمٌ إلّا حينَ قابلتِه بالسؤالِ المؤنِّبِ: ’’لماذا؟‘‘
حينَها انتبهْتُ؛ القوّةُ التي من شأنِها أن تجعلَ صوتي مسموعًا مذمومةٌ أيضًا، فشأنُ النساءِ في عالمِنا الرضوخ.
ها أنا أجيبُ سؤالَك الآن.
لأنّ المعصيةَ بالنسبةِ لي مفتاحُ التحرّرِ. مفتاحُ الحرّيّةِ التي لم يريدوها لكِ وبدوركِ -عن قصدٍ أو من دونِ قصدٍ- لم تريديها لي. لكنّي فطرويّةٌ. أناي تشكّلَتْ بالفطرةِ السبّاقةِ إلى الحرّيّةِ. كنتُ الأنا الأعندَ من كلِّ الأنَيات العُليا التي تشكّلها النظمُ والقيودُ والمحرّماتُ والمجرّماتُ، هذه التي بحثتُ عمرًا عن سببِ تحريمِها وتجريمِها فما وجدْتُ سببًا يتجاوزُ الرغبةَ في السيطرةِ.
أنا الأنا وأنتِ الأنا العليا يا أمّي.
لأنّ التمرّدَ -المعصيةَ- كانَ ولا يزالُ مفتاحَ بابِ الحبِّ الذي أعرفُه مرادفًا للحرّيّةِ، ويعرفونه -كما تعرفينه- مرادفًا للملكيّةِ. الملكيّةُ صاحبةُ السيطرةِ. لا أنكِرُ؛ الحبَُ المرادفُ للحرّيّةِ مخيفٌ أحيانًا. لكنّ الحبَّ مرادفَ الملكيّةِ أشدُّ إخافةً، على الأقلِّ بالنسبةِ لي.
لعلّكِ تظنّين الملكيّةَ حمايةً، ولا أستغربُ ذلك أيضًا، نحن النساء جميعُنا بناتُ أنظمةٍ حاكمةٍ تقدّس الملكيّة، فتسعى جاهدةً لامتلاك كلِّ شيء بما في ذلك أجسادنا. تملّكٌ باسم الحبّ. لعلّهم يرونني شيئًا يُمتلك، لكنّي لا أرى في نفسي شيئًا يا أمّي. الأشياءُ المملوكة جامدةٌ وجسدي الحيُّ نقيضُ الجمودِ. إنّي أخافُ التملّكَ يا أمّي. التملّكُ سجنٌ وأنا أخافُ عتمةَ السجونِ. السجونُ تستدعي الرقابةَ، والرقابةُ تليها الوشايةُ، وذلك باسمِ الحمايةِ. الرقابةُ والوشايةُ، كما يقولُ ابنُ حزمٍ، آفتان من آفاتِ الحبِّ يا أمّي.
تقولين دومًا أنَّ الحبَّ مقرونٌ بالتنازُلِ. للمرءِ أن يتنازلَ عن حقِّه في ميراثٍ يرثُه، أو عن ملكيّةِ شقّةٍ مثلًا، لكن ليس له أن يتنازلَ عن جزءٍ من أجزاءِ نفسِه. النظامُ الذي أرادَ لكِ ولي الرضوخَ أرادَ لنا أن نتنازلَ عن أنفسِنا. أقولُ: ’’من يحبُّ يتجرّدُ، يعرّي ما في نفسِه في حضرةِ محبوبِهِ -ومن أجلِ التجرّدِ لا بدَّ منَ التمرّدِ- علَّ التجرّدَ يكشفُ عن مكنوناتِ نفسِه الخفيّةِ الساعيةِ دأبًا إلى ملاقاةِ مثلِها، علّه بالتجرّدِ يجدُ شبيهًا حقًّا عوضًا عن ادّعاء الشبَه.‘‘
تخيّلي أن يتجرّدَ الكلُّ يا أمّي فيجد له شبيهًا حقيقيًّا. تخيّلي!
لعلّنا مختلفتان في فلسفةِ الحياةِ يا أمّي. أنتِ الغربيّةُ الحداثويّةُ وأنا الشرقيّةُ المرهفةُ. نعيشُ صراعَ حضاراتٍ قائمًا منذُ فجرِ التاريخ، ولعلّ هذا الصراعَ لم يعُدْ مجرّدَ اختلافٍ في وجهاتِ النظرِ، لعلَّه صارَ صراعَ وجودٍ. أرجو ألّا تسيئي فهمي، إنّي لا أنكرُ حقَّكِ فيه هذا الأخيرُ، لكنّي طلبتُ بالتصريحِ والتلميحِ مرارًا ألّا تُنكري أنتِ حقّي فيه لمجرّدِ اختلافي عنكِ. ما زلتُ أؤمن أنّ الاختلافَ غنًى وأنَّ الآحاديّةَ قاتلةٌ. أمام اختلافي أصرّيتِ على آحاديّةِ وجودِكِ ولم تعيري طلبي آذانًا صاغيةً. تلميذةٌ مطيعةٌ للنظام أنتِ يا أمّي، وأنا تلميذةٌ متمرّدةٌ.
لكِ أمّي أقولُ إنّي ها هنا أحيا، على المَقلبِ الآخرِ من الحياةِ -حياتِكِ النظاميّةِ- في وجهِها الآخرِ المدّثرِ بالمعصيةِ. ها أنا أعيشُ حبّي وحرّيّتي بكلِّ الوسائلِ المتاحةِ وإن شحَّت، أمارسُهما ما حييتُ، إلى أن يعودَ جسدي بذرةً في ترابِ هذي الأرضِ وإلى أن تحلّقَ روحي في فضاءِ هذا الكونِ الرحبِ. لأجلِ لا شيءَ ولأجلِ كلِّ شيءٍ. لأجلِ لا شيءَ لأنَّ الحياةَ مهزلةٌ. ولأجلِ كلِّ شيءٍ لأنَّ ثمّةَ من يريدُ سلبَنا حقَّنا في عيشِ المهزلة.
هكذا أحيا، هكذا سأحيا، على الدربِ هذا. خطاي واضحةٌ والدربُ سالكٌ، إن شئْتِ اتبعيها واحتضنيني.