الرسالة 4: متى سنروي قصصَ فلِسطينَ؟

 

الجمال والدمار. صورة للمصور الفلسطيني هيثم عماد، غزة،
15 كانون الأول 2024

رسائلُ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ 4: متى سنروي قصصَ فلِسطينَ؟

رسالةٌ مفتوحةٌ إلى قادةِ المسرحِ في الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ


من: سحر عسّاف، صانعة مسرح

تحذيرٌ بشأنِ المحتوى: تحتوي هذه الرسالةُ على إشاراتٍ إلى العنفِ ووصفٍ له، بما في ذلك الحربُ والعنفُ الجنسيُّ الذي تعرّضَ له أفرادٌ في فلِسطينَ. وقد تؤدّي بعضُ الروابطِ المتشعّبةِ إلى وصفٍ مفصّلٍ تصويريٍّ لهذه الأحداثِ.


أعزائي قادةَ المسرحِ في الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ الذين لم يخرجوا عن صمتِهم بعدُ تجاه فلِسطينَ.      

اسمي سحر عسّاف. أنا صانعةُ مسرحٍ لبنانيّةٌ. أكتبُ هذه الرسالةَ بصفتي فنانةً مستقلّةً، وأتحدّث باسمٍيَ الشخصيِّ ونيابةً عن نفسِيَ فقط، ولا أمثّلُ أيَّ منظّمةٍ أو مجموعةٍ أو شعبٍ. أكتبُ لكم بصفتي أمًّا وامرأةً وصانعةَ مسرحٍ. أكتبُ بصفتي عضوةً جديدةً نسبيًّا في مجتمعِكم المتنوّعِ الكبير-الصغيرِ في آنٍ واحدٍ.

لقد كتبتُ هذه الرسالةَ في ذهني وقلبي مئاتَ المرّاتِ على مدارِ العامِ الماضي. ولقد تردَّدْتُ في أنْ أخطَّها بيدي على الورقِ حتّى الآونةِ الأخيرة، حينَ ظهورِ مبادرةِ مسرحِ زقاق "رسائلُ من فوقِ الأرضِ" التي تستجيبُ للّحظةِ الراهنةِ وتواجهُها. وهذا ما شجّعَني على الكتابةِ. بدأتُ أكتبُ نظرًا لإيمانِيَ بالمسرحِ وشغفِيَ به وحبِّيَ لصنّاعِ المسرحِ أينما وُجدوا. أكتبُ لأنني عندَ انتقالِيَ من لبنانَ إلى الولاياتِ المتّحدةِ في عامِ 2021، احتُضنتُ من قبلِ الكثيرين  منكم بحبٍّ ودعمٍ ورعايةٍ يأمل بها كلُّ وافدٍ جديدٍ. لذا أجدُ أنَّ من واجبي أن أدعوَكم وأخبرَكم عن أصداءِ صمتِكُمُ المدوّي.

طوالَ العامِ الماضي كنتُ أواجهُ صعوبةً في إيجادِ معنًى لعملِيَ بصفةِ صانعةِ مسرحٍ. ففي مواجهةِ الأعمالِ الوحشيّةِ التي نشهدُها يومًا بعدَ يومٍ، باتَت فكرةُ المسرحِ من أجلِ المسرحِ غيرَ مناسبةٍ في أفضلِ الأحوال وخطيرةً في أسوئِها. إذ عندما نشهدُ إبادةً جماعيّةً لشعوبٍ ومدنٍ وثقافاتٍ بأشنعِ الطرقِ وأبشعِها في وضَحِ النّهارِ وعلى مرأى ومسمعِ قادةِ العالمِ، نشعرُ أنَّ فنَّ تقمّصِ الأدوارِ ولعبَ شخصيّاتٍ أخرى لاستثارةِ التعاطفِ أمرٌ عبثيٌّ إلى حدٍّ ما، وأنَّ الاستمرارَ في خلقِ الفنِّ وفقًا للعقليّة المعتادة، كما هو جارٍ حاليًّا، يعرّضُنا لخطرِ الاستمرارِ بإنتاجِ الثقافةِ نفسِها التي تسمحُ بارتكابِ الفظائعِ الوحشيّةِ.

وصلْتُ إلى الولاياتِ المتّحدةِ في وقتٍ شعرْتُ به بالتزامٍ عميقٍ وشاملٍ بالقيمِ التقدّميّةِ والعملِ الجماعيِّ. كانَ ذلك في منتصفِ فترةِ انتشارِ وباءِ كوفيد-19، في خضمِّ موجاتِ الحركاتِ الشجاعةِ مثل "حياةُ ذوي وذواتِ البشرةِ السوداءِ مهمّةٌ" Black Lives Matter ، وحركةِ " نراكم - المسرحُ الأميركيُّ الأبيضُ" We See You W.A.T.، وحركةِ "أنا أيضًا/ مي تو" MeToo. في كلِّ يومٍ وعندَ كلِّ محادثةٍ مع الكثيرين منكم كنْتُ أشعرُ أنّني محظوظةً لصناعةِ المسرح مع قادةِ فكرٍ أمثالِكم، أشخاصٌ يشكّلون الاتجاهاتِ ويضعونَ معاييرَ هذا المجالِ والعالمِ أجمعَ.

بعدئذٍ بدأَتِ الإبادةُ الجماعيّةُ في فلِسطينَ. لم أتوقّعْ ردودَ فعلٍ أو بياناتِ تضامنٍ فوريّةٍ، لكنّني لم أتوقّعْ أيضًا أن يمرَّ عامٌ بطولِه وعرضِه بينما تستمرُّ هذه الوحشيّةُ - المموّلةُ من ضرائبِنا -ضرائبِكم- حتّى من دونِ أيِّ بيانِ معارضةٍ بسيطٍ من قبَلِ قادةِ المسرح. لقدِ انضمَّ العديدُ من الفنّانينَ الأفرادِ إلى نداءِ وقفِ إطلاقِ النارِ، لكنَّ العديدَ منَ القادةِ لم ينضمّوا إلينا. لم أستطعْ أن أستوعبَ هذا الصمتَ المطبِقَ من قبَلِ المجتمعِ ذاتِه الذي لا تفوتُه أيُّ فرصةٍ للتحدّثِ عن السلامِ والحبِّ والرحمةِ.

سألتُ نفسِيَ، هلْ منَ المُحتَمَلِ أنَّكم لا تعلمون؟ ألم تعلموا بأنَّ الولاياتِ المتّحدةَ أنفقَتْ مبلغًا قياسيًّا وقدرُه 17.9 مليارَ دولارٍ على المساعداتِ العسكريّةِ لإسرائيل منذُ 7 أكتوبر/ تشرينَ الأوّلِ 2023 وحتى ديسمبر/ كانون الأوّل 2024؟ ألم تعلموا بأنّ الولاياتِ المتّحدةَ استخدمَتْ حقَّ النقضِ ضدَّ 4 قراراتِ لمجلسِ الأمنِ التابعِ للأممِ المتحدةِ مطالبةٍ بوقفِ إطلاقِ النارِ في غزّةَ؟ منذُ أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، قُتل أكثرُ من 17000 طفلٍ في غزّة. هل يمكنُكم استيعابُ هذا الرقمِ؟ أنا لا يمكنُني. لكنّني شاهدْتُ المؤتمرَ الصحفيَّ الذي عقدَه أطفالُ غزّةَ، وهم يناشدون العالمَ للمساعدةِ. هلْ شاهدْتُموهم؟

ألم تسمعوا صوتَ هندَ رجبٍ؟ ألم تسمعوا صوتَها وهي تتوسّلُ المساعدةَ عبرَ مكالمةٍ هاتفيّةٍ معَ جمعيّةِ الهلالِ الأحمرِ الفلسطينيِّ وهي محاطةٌ بجثثِ أقاربِها الستّةِ الملطّخةِ بالدماءِ؟ ألم تسمعوا المقابلةَ معَ والدتِها حينَ تحدّثَتْ عنِ اللحظاتِ الأخيرةِ التي عاشَتْها هندُ عبرَ الهاتفِ؟ كانَتْ هذه الطفلةُ البالغةُ منَ العمرِ خمسَ سنواتٍ قلقةً بشأنِ مسحِ الدماءِ التي تسيلُ من فمِها كلَّما تحدّثَتْ لأنَّها خائفةٌ أنْ تلطّخَ قميصَها بالدمِ فتتعذّبُ والدتُها بتنظيفِه. وبعدَ ذلك بأسبوعين وُجدَتْ جثّتُها الهامدةُ في سيّارةٍ أُطلقَت عليها 355 رصاصةً. ألم تعلموا بذلك؟

هل شاهدتُم شعبانَ الدلوِ، طالبَ هندسةِ البرمجيّاتِ البالغَ من العمرِ 19 عامًا، والنارُ تلتهمُ جسدَه الحيَّ أمامَ أعينِ العالمِ وهو لا يزالُ متّصلًا بكيسِ المحلولِ الوريديّ؟ وماذا عن التوأميْن حديثيْ الولادةِ، اللّذيْن قُتلا إلى جانبِ والدتِهما، بينما كانَ والدُهما قد ذهبَ لتسجيلِ ولادتِهما؟

هل سمعْتُم قصةَ الطفلِ الفلسطينيِّ البالغِ منَ العمرِ 11 عامًا الذي حملَ شقيقَه الصغيرَ المتوَفّى، أحمد، إلى مستشفًى في خانِ يونسَ في حقيبتِه الزرقاءَ؟ أو قصّةَ أحمدَ آخرَ، أحمد النجار، البالغِ من العمرِ 18 شهرًا فقط، الذي رفعَ والدُه جثتَه مقطوعةَ الرأسِ أمامَ الكاميرا بعدَ قصفِ الخيامِ التي تُؤوي النازحين الفلسطينيّين بالقربِ من مخازنِ الأونروا في رفحٍ؟ وماذا عن عمرَ حمدٍ البالغِ منَ العمرِ تسعَ سنواتٍ، الذي شاهدَ والدُه يحترقُ حيًّا في هجومٍ إسرائيليٍّ على مخيّمٍ آخرَ في رفحٍ، وظلَّ يبكي حتّى استسلمَ جسدُه الصغيرُ للنومِ؟ وماذا عن زين يوسف الذي ينامُ كلّ ليلةٍ عندَ قبرِ والدتِه منذُ مقتلِها؟ سمعْتم عن الأهالي الذين يكتبون أسماءَ أطفالِهم على أذرعِهم وأرجلِهم باستخدامِ أقلامِ تحديدٍ للتمكنِ من التعرّفِ على أجسادِهم عندما يُقتلون؟

لقد وصلَتْ أغلبُ هذه القصصِ إلى وسائلِ الإعلامِ الغربيّةِ الرئيسيّةِ. فهلْ منَ الممكنِ أنْ تكونَ قدْ فاتَتْكُم جميعُها؟ أم منَ الممكنِ أنْ تكونوا قدْ شاهدتُم كلَّ هذا ولم تتمكنّوا من تصوُّرِ ما يعنيه ذلك للناسِ الذين يعانون هذه العذاباتِ؟ وهل منَ الممكنِ أن تكونوا قد شاهدْتُم كلَّ هذا ومعَ ذلك لم تتحرّكْ مشاعرُكم للتنديدِ بما يحدثُ، مع العلمِ أنَّ كلَّ هذه الوحشيّةِ تحدثُ بتمويلٍ منَ الضرائبِ التي تدفعونها؟

أسألُ نفسي، هل كنْتُم ستظلّون صامتين وتستمرّون بتقديمِ برامجِكُمُ الفنّيّةِ لوْ أنَّ ’’هندًا‘‘ كانَتْ ’’هيذر‘‘، و’’شعبانَ‘‘ كان ’’شون‘‘، و’’أحمدَ‘‘ كان ’’أنتوني‘‘، و’’زينًا‘‘ كان ’’زاك‘‘، و’’عمرَ‘‘ كان ’’أوين‘‘؟ هل كنْتُم ستصمتون؟

ما نشهدُه اليومَ، كما تعلمون على الأرجحِ، هو الإبادةُ الجماعيّةُ الأكثرُ توثيقًا في التاريخِ، وهي إبادةٌ جماعيّةٌ تُبَثُّ مباشرةً على هواتفِنا المحمولةِ، بموافقةٍ ودعمٍ من الولاياتِ المتّحدةِ.

على هاتفي المحمول قرأتُ قصصًا عن أناسٍ في غزّةَ يسمعون أصواتَ الناجين من تحتِ الأنقاضِ، ولكنّهم مضطرّون للابتعادِ لأنَّ الوصولَ إليهم أصبحَ من سابعِ المستحيلات. قرأتُ كذلك قصصَ النساءِ اللواتي يتحمّلْنَ آلامَ عمليّاتِ الولادةِ القيصريّةِ دونَ تخديرٍ، وقصصَ الأطفالِ الّذين تُخاطُ جراحُهم وتُبترُ أطرافُهم دونَ تخديرٍ أيضًا، وقصصَ الأطفالِ الّذين يموتون جوعًا بين أحضانِ والديْهم، والنساءِ والأطفالِ الّذين يموتون سحقًا في التدافعِ لالتقاطِ كسرةِ خبزٍ. قرأتُ أيضًا قصّةً عن مجزرةٍ أطلقَ عليها أهالي غزّةَ اسمَ مجزرةِ الطحينِ وأخرى عنِ الجنودِ الإسرائيليين الذين بدّلوا المساعداتِ الغذائيّةَ الّتي تدخلُ غزّةَ بأكياسِ رملٍ! هل يمكنُكم تخيّلُ هذه الوحشيّةَ؟

الأطبّاءُ في غزّةَ ابتكروا اختصارًا جديدًا وهو WCNSF  أي طفلٌ جريحٌ بلا عائلةٍ ناجيةٍ. هل يمكنُكم تخيّلُ طفلٍ تعرفونه يُطلقُ عليه هذا اللقب؟ أكثرُ من مئةِ عاملِ رعايةٍ صحّيّةٍ قُتلوا واعتُقلَ مئاتٌ آخرون بما فيهم الدكتورُ عدنانُ البرشِ، الطبيبُ المحبوبُ في غزّةَ، الذي اعتُقلَ واغتُصبَ وعُذّبَ حتى الموتِ. ومؤخرًا الدكتورُ حسامُ أبو صفيّةٍ الذي لا يزالُ مكانُه غيرَ معلومٍ حتى الآن. لقد شاهدْتُ مقطعَ فيديو مأخوذًا من كاميرا مراقبةٍ مسرّبًا من سدي تيمان يُظهر جنودًا يغتصبون فلسطينيًا بشكلٍ جماعيٍّ. هل قرأتُم أيّّ شهادةٍ من شهاداتِ نساءٍ فلسطينيّاتٍ تعرّضْنَ للاغتصابِ بشكلٍ منهجيٍّ من قبلِ جنودٍ وحرّاسٍ إسرائيليّين؟ إلى أيِّ مدًى يمكنُ للمرءِ أنْ يتجاهلَ ما يحدثُ؟

لقد قُتلَ أكثرُ من ماءةِ صحفيٍّ في غزةَ منذُ بدءِ الإبادةِ الجماعيّةِ. شاهدْتُ قصّةَ حسن حمد، الصحفيِّ الفلسطينيِّ البالغِ منَ العمرِ 19 عامًا، والذي قُتلَ في غارةٍ جويّةٍ على منزلِه في مخيمِ جباليا للاجئين، وقد جُمِعَت أشلاؤُه المتناثرةُ في صندوقِ أحذيةٍ صغيرٍ. ألا ينبغي لنا أن نشعرَ بالقلقِ إزاءَ حقيقةِ عدمِ السماحِ لأيِّ صحفيٍّ دوليٍّ بالدخولِ إلى غزةَ لتوثيقِ كيفيّةِ استخدامِ أموالِ ضرائبِنا؟ وأهالي غزّةَ مثلَ سعيد، وصالح، وناهض، ووسام، وكثيرين غيرهم، تُركَتْ لهم مهمّةُ توثيقِ الإبادةِ الجماعيّةِ وهم يحاولون النجاةَ منها. أكثرُ من 45000 قتيل، 70٪ منهم من النساءِ والأطفالِ. كلُّ واحدٍ منهم كانَ له حياةٌ وحُبٌّ وحلُمٌ. كلُّ واحدٍ منهم قصّةٌ.

وبينما كنْتُ أشاهدُ وأقرأُ هذه القصصَ، كنْت أشاهدُكُم، زملائي، تُدْلون بتصريحاتِ الاعترافِ بالأرضِ بالتزامٍ راسخٍ. وتهدفُ تصريحاتُ الاعترافِ بالأرضِ هذه إلى مواجهةِ حقيقةِ العمليّاتِ التاريخيّةِ والمستمرّةِ للاستعمار. هي تهدفُ إلى الإشارةِ إلى الحاجةِ إلى التغييرِ المنهجيِّ داخلَ مجتمعاتِ المستوطنين فيما يتعلّقُ بالشعوبِ الأصليّةِ. لذا لا أفهمُ كيف يمكنُ للمرءِ أن يلتزمَ بهذه التصريحاتِ بينما يظلُّ صامتًا أمامَ الإبادةِ الجماعيّةِ والتطهيرِ العرقيِّ وسرقةِ الأراضي المستمرّةِ حتى اللحظةِ - وهي أفعالٌ أقرَّتْها حكومتُكم. هذا الصمتُ في مواجهةِ مثلِ هذه الفظائعِ يقوّضُ الغرضَ ذاتَه الذي من المفترضِ أن تخدمَه هذه التصريحاتُ.

لا أفهمُ كيف يمكنُ للمرءِ أن يتّخذَ موقفًا صادقًا رافضًا للعنصريّةِ بينما يبقى صامتًا بشأنِ استثمارِ حكومتِه ملياراتِ الدولاراتِ في كيانٍ قامَ على مدى ستةٍ وسبعين عامًا بالقمعِ والقتلِ وسلبِ الأراضي من السكانِ الأصليّين ذوي وذوات البشرةِ السمراءِ مع الإفلاتِ التامِّ من العقابِ. تمنحُ حكوماتُ الولاياتِ المتحدةِ ملياراتِ الدولاراتِ لكيانِ الفصلِ العنصريِّ الذي يُخضِعُ 2.2 مليون شخصًا -نصفهم من الأطفال- لحصارٍ دامَ سبعةَ عشرَ عامًا، ويجبرُهم للبقاءِ على قيدِ الحياةِ على اتّباعِ نظامٍ غذائيٍّ مقيّدِ السعراتِ الحراريّةِ، ويقصفُهم بشكلٍ تعسّفيٍّ واستباقيٍّ، ويطلقُ النارَ على ركبِهم وأعناقِهم عندما ينظمون مسيراتٍ سلميّةً من أجلِ الحريّةِ.

نقولُ إنّ المسرحَ يساعدُنا على تخيُّلِ عوالمَ أفضلَ. إنَّ هذا الاعتقادَ يدعونا -أخصّ منّا أولئك الذين لديهم القدرةُ على الوصولِ إلى المنصاتِ- إلى الاعترافِ بمسؤوليّتِنا تجاهَ العالمِ الذي تنتجُه هذه الإبادةُ الجماعيّةُ. وينبغي أن يدفعَنا هذا إلى النظرِ في مسؤوليّتِنا تجاه مجتمعاتِنا في الولاياتِ المتحدةِ وتاريخِ هذا البلدِ وإرثِه في النشاطِ المدنيِّ والتغييرِ الاجتماعيّ.

نقولُ إنَّنا نصنعُ المسرحَ لسردِ القصصِ. إنّّ تجاهلَ القصّةِ الأكثرِ إلحاحًا في عصرِنا -الإبادةُ الجماعيّةُ التي ارتُكِبَت بأموالِنا وصمتِنا- يجعلُنا متواطئين في استمرارِها. في حينِ أنَّ الخوفَ منَ العواقبِ المحتملةِ للتحدّثِ علنًا يُعدُّ أمرًا حقيقيًّا، إلا أنَّه يتضاءَلُ مقارنةً بالخوفِ الذي يعيشُه أولئك الذين يرزحون تحت وطأةِ القنابلِ، وبخوفِ العائلاتِ التي تُخلي منازلَها للذهابِ إلى مكانٍ "أكثرِ أمانًا"، فقط لتُقتلَ على الطريقِ أو عندَ وصولِها. إضافةً إلى الخوفِ من سماعِ أصواتِ الطائراتِ المسيّرةِ والطائراتِ الرباعيّةِ المروحيّاتِ على مدارِ السّاعةِ، دونَ معرفةِ زمانِ ومكانِ ضربتِها التاليةِ. لقد شعرْتُ بهذا الخوفِ وعايشتُه. يطغى هذا الخوفُ على أيِّ شعورٍ آخرَ، ما يجعلُك موجودًا في الوقتِ الحاضرِ الذي لا يُحتَمَلُ، مخنوقًا ومحرومًا من ماضيكَ أو أيِّ لمحةٍ من مستقبلٍ محتملٍ. هذا الخوفُ لا يزالُ مستمرًّا، هناك الآنَ، تحتَ الأسلحةِ القاتلةِ التي تعملُ بالذكاءِ الاصطناعيِّ والمصنّعةِ في الولاياتِ المتحدةِ.

في السنواتِ القادمةِ، أنا على ثقةٍ من أنّّ لحظةَ الحسابِ ستأتي في الولاياتِ المتحدةِ، عندما يضطرُّ المواطنون ودافعو الضرائبِ إلى مواجهةِ تورّطِنا المباشِرِ في الإبادةِ الجماعيّةِ والمحوِ الثقافيِّ في فلِسطينَ. فكّروا بمَ ستجيبون الأجيالَ القادمةَ من صنّاعِ المسرحِ عندما يسألون، "ماذا فعلتُم لمعارضةِ تلك الإبادةِ الجماعيّةِ؟" مع العلمِ أنكم لن تتمكنوا من استخدامِ العذرِ المتمثّلِ بعبارةِ ’’لم نكن نعرف‘‘.

في السنواتِ القادمةِ، عندما يعلنُ التاريخُ بشكلٍ لا لَبسَ فيه أنَّ ما حدثَ في غزّةَ كان إبادةً جماعيّةً، وتُرفعُ المحرّماتُ الاجتماعيّةُ والسياسيّةُ الّتي تحظرُ استخدامَ اسمِ فلِسطينَ، إنّي متأكّدةٌ تمامًا من أنّ المسارحَ الكبرى التي عُهدِ بإدارتِها للعديدِ منكم ستكونُ متلهّفةً لسردِ القصصِ عنها وعنِ الأشخاصِ الذين لقَوا حتفَهم، وأولئك الذين نجَوا من هذه الإبادة، وعنِ الحركاتِ التي كان لها الفضلُ في إنهائِها.

آملُ أن تقولوا شيئًا، أو أن تفعلوا أيَّ شيءٍ اليومَ لكسبِ شرفِ عَرْضِ هذه القصصِ على مسارحِكم في المستقبلِ، فالعالمُ يراقبُ.

لعلَّنا نحقّقُ العدالةَ، كي يسودَ السلامُ.

سحر عسّاف

في ذكرى جوليانو مير خميس، الشريك المؤسّس والمدير الفنّي لمسرح الحريّة

"تكمن مسؤوليتنا بصفتنا فنانين وفنانات في إعادةِ بناءِ أو إعمارِ هذا الدمارِ، لبناءِ الأملِ، وبناءِ المقاومةِ، وبناءِ الهويّةِ، وبناءِ الخططِ الاستراتيجيّةِ، وبناءِ التفكيرِ، وبناءِ مفهومِ الحياةِ." - جوليانو مير خميس

 

ترجمة رنا عزام


يومًا ما. صورة للشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة، غزة، 16 كانون الثاني 2018

Popular posts from this blog

Letter 7: On Nonviolence, Communication and Power

Letter 1: From What Remains

الرسالة 2: …مِنْ قَلْبِ الكِيَانِ