الرسالة 5: رسالة لا تطمح للوصول إلى أحد
رسائلُ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ 5: رسالة لا تطمح للوصول إلى أحد
صديقي جُنيْد،
كما قلتُ لك في لقائنا الأخير، لا أريد لهذه الرسالة أن تصِل إلى أحد، وتحديدًا إلى الأجانب. ليس هذا يأسًا أو موقفًا اعتراضيًا أو نضاليًا، بل أنا فعلًا ليس لديّ ما أقوله لهم أكثر من إجابتي الجاهزة التي بتّ أنسخها وألصقها مؤخرًا: "I'm okay, safe and sound, thank you".
ماذا تقول النملة للزرافة؟
الصّوتُ لا يصِل أصلًا.
إن كانت لديّ دقيقة للكتابة، فإنّي أفضّل أن أكتب إليك، أو إلى سحر، أو حتى قططي - قد أكتب ربّما لقطّة الحيّ، بوسي، التي يُقلقني غيابها. مرّت شهورٌ ولم أصادفها في الشارع. زعرة هذه البسينة. لم تترك ذكرًا في الحيّ يُفلتُ منها، وكلّما رأيتُها تكون إمّا حاملًا أو وضعَت للتّو. تبنّيتُ إحدى بناتها منذ فترة وأسميتُها ليمونة، لم يتطلّب الأمر إبداعًا كبيرًا، فلونها بالفعل ليمونيّ. مشاكسةٌ مثل أمّها، لكنّها على الأرجح لا تفضّل الذكور، إذ تتفادى القطّ الأكبر في بيتي، "جون"، وهو في المقابل، لا يحبّها.
كثُرَت الزراريع على شرفتي في الشّهرَين الأخيرَين، بعد أن جاءَت إليّ تلك المرأةُ الحلوةُ بنباتاتها. كما جاءت بثيابٍ وعدّة ماكياجٍ وحليٍّ وعطورٍ ومستحضرات شَعرٍ وعنايةٍ بالبشرة، ونثرَتها كغُبارِ الطّلَع في أرجاء منزلي. بتّ أشمّ روائح مثيرةً كيفما تحرّكتُ بين الغُرَف، أعذبُها رائحةُ نومِها الخفيف على الوسادة الحريريّة بجانبي. كم هي حلوةٌ هذه المرأة. كنتُ أسخرُ من الكليشيهات التي تقول إنّ الحضور الأنثويّ في المنزل يغيّر شكلَه ويُضفي على الحياة فيه عذوبةً ورقّةً ما. عليّ الاعتراف بأنّي كنتُ على قدرٍ من الحماقة والغرور. فالحقيقة هي أنّني أحبّ أن أعدّ لها الفطور والقهوة، كما تحبّ هي أن تعدّهما لي. البيتُ واسع، نتكلّم بالرسائل الصوتية أو المكتوبة أحيانًا. غالبًا ما تستفيق قبلي، وتعتني بالزرّيعات والقطط. مذ أتَت إلى البيت، خفّ منسوب التوتّر لدى "جون". نسج معها صداقةً مبنيةً على إلفةٍ حذِرة، وصار يقترب أكثر. في صوتِها وحركتِها ما يهدّئنا جميعًا، أنا والزرّيعات والقطط. قبل أسابيع، ضبطتُ قلبي متلبّسًا يُقسم أنّه لن يملّ من هذه الحياة معها يومًا.
على أيّ حالٍ، ليسَت هذه رسالة حبّ. ولا هي رسالة كراهية. هي رسالةٌ لا تبتغي هدفًا خارج نفسها.
عزيزي جُنَيد،
أعتقد أنّي سمعتُ بالحرب للمرّة الأولى في حرب عناقيد الغضب عام 1996. كان عمري 7 أعوامٍ ونصف. لا أذكر كيف بدأَت، ولا أذكر صوت الضربة الأولى، لكنّي أذكرُ أنّ أمّي قفزَت هاربةً من الشّرفة حيث كانت تنشر الغسيل، إلى داخل الصالون حيث كنتُ وأخي نشاهد التلفزيون. لا أذكر ماذا كنّا نشاهد بالضبط، ولا ما إذا كان أبي في المنزل وقتها. لكنّي أذكر أنّ أمّي - بيدَين مرتجفتَين - أصرّت على إكمال نشر الغسيل قبل أن نهرب. كان ذلك في صباح 11 نيسان 1996. كان بيتُنا، في معوّض، في قلب الضاحية، فهرَبنا إلى منزل عمّتي في الشيّاح التي اتخذَت لنفسها شعارًا يومها: "الشيّاح لن تنزاح". كانت عمّتي تردّد الشّعار ضاحكةً مع نفسها بينما تتنقّل بين الغرف ببُنيتِها الهزيلة ووجهها الصّلب. في النهار، كنتُ وبنات عمّتي نتفرّج على البوالين الحرارية في السماء، وفي الليل، نتفرّج على الكبار يدخّنون بشراهةٍ أمام شاشات الأخبار. يوم مجزرة قانا، وقفتُ أتفرّج على مسعفٍ ينتشل طفلًا مقطوع الرأس، يبكي ويناجي الكاميرا بكلماتٍ لم أسمعها. بكَت النساءُ بشدّةٍ يومها، بينا احتقن الدّم في وجوه الرجال. احتضنَتني أمّي وشعرتُ بدموعها تنهال عليّ من الخلف، على رأسي، وأسفل رقبتي، وظَهري. ليلتها، استدارَت عيونُ الجميع صوبي، وبكَت كثيرًا.
تحوّل الصالون إلى نهرٍ من الدموع، أغرقَني لزمنٍ.
ولزمنٍ طويل، لم أكُن أحبّ الأطفال.
الألمُ في الطفولة يتكدّس خارج قلوبنا الصغيرة لأنّها لا تتّسع له. يتجمّع في قجّةٍ ما في مكانٍ ما، تظلّ تتضخّم وتتمدّد حتى تنفجر. نبقى لسنين من بعدها نُلملِمُ أشلاء حزننا وألمنا، ولا نعرف أين نخبّئها.
ثمّ، لماذا ترفض تلك المرأةُ الحلوةُ تناول حبّة بانادول عندما يصيبها الصّداع؟ أعرف أنّها امرأةٌ قويّةٌ ومستقلّة، وهو ما أوقعَني في حبّها أساسًا - لكن ما علاقة ذلك بحبّة البانادول؟
ما علينا، من حيث المنطق، لا بدّ أنّي سمعتُ عن الحرب قبل عناقيد الغضب، في صفّ التاريخ أو الدين في المدرسة، مثلًا. ثمّة حروبٌ كثيرةٌ جدًا، ما يجعل فكرة الحرب عصيّةً على التفادي أو التجاهل، مهما حاولَ العالمُ صَون طفولتنا - وهو للأمانة، لم يحاوِل يومًا.
هناك مثلًا، معركة ذات الصّواري. أحبّ اسم هذه المعركة. شاعريّ. يستحضر البحرَ والسّفن. وأنا أعشق السّفن. أشاهد فيديوهاتٍ وأفلامًا عن صناعة السّفن وقصص اختفاءاتها المثيرة. أفكّر عادةً في كثيرٍ من الأمور، لكنّي أظلّ أعود إلى سفينة ثيسيوس، ومسألتها الفلسفية: هل تبقى السفينة نفسها إذا ما تبدّلَت جميع قِطَعِها الأصليّة؟
فحوى المسألة هو: هل نبقى نحنُ أنفسنا إذا ما تغيّرَت قِطَعُنا الداخلية والخارجية؟ كأن نُغيّر أنفَنا، أو نستبدل شرايين قلبنا، أو نفقد ذراعنا، أو أن يحترق بيتنا أو ألبوم صور طفولتنا…
طبعًا لم أتوصّل إلى أيّ جواب سوى أنّنا بشرٌ ولا تستقيم مقارنتنا بالسّفن أصلًا. فالسِفينة لا ذاكرة لها، ولا عاطفة، ولا شخصيّة، وهي كلّها خصائص ووظائف تساعِدُنا في الحفاظ على وَحدة نفسنا البشريّة… لكن هل يعني ذلك أنّ من تفقد الذاكرة تصبح امرأةً أخرى؟ أو مَن يصيبه الألزهايمر أو الخرف، لا يعود هو نفسه؟ أو مَن يصيبها اضطراب الهوية التفارقيّة، المعروف باضطراب تعدّد الشخصيات، تتوقّف عن كونها هي هي؟ ربّما، لكنّ مَن حولهم، ومَن يحبّونهم، يظلّون يحفظون أسماءهم وقصصهم وذكرياتهم، ويحرصون على ترديدها لهم وتذكيرهم بها…
أرأَيت، عزيزي جُنيد؟ نفسُنا - وإن فقدناها - تستمرّ في الآخرين ممّن يحبّوننا ويتذكّروننا. لعلّ هذه الجملة ليسَت إحدى الكليشيهات المميتة. أو لعلّها كليشيه لسببٍ وجيه.
أما السّفن، فليس لديها مَن يحبّها.
بلى. في الواقع. كذبتُ. ثمّة قصصٌ كثيرةٌ عن قباطنةٍ وقراصنةٍ فضّلوا الموت مع سفُنِهم الغارقة، إخلاصًا لها، وعجزًا عن تصوّر الحياة خارجها. أو ربّما علِقوا في مقصورة القيادة ولم يتمكّنوا من الهرب. أيًا تكُن الحقيقة، الصّورة الشاعريّة تظلّ أكثر إغراء: يوم 5 حزيران 1940، شنّت البحريّة الأميركيّة هجومًا على الأسطول الياباني الأقوى في العالم آنذاك، الراسي في المحيط الهادئ. على متن إحدى السّفن اليابانية المستهدَفة، أعطى الكابتن ياناغيموتو أمرًا لطاقمه بإخلاء السفينة فورًا بعد أن التهمَتها النيران. بعد خروجهم، أدرك أفرادُ الطاقم أنّ قبطانهم لم يفارق السفينة، فعاد أحدهم لإخراجه، ويُدعى آبي، لكنّه وجد القبطان واقفًا على شرفة مقصورة القيادة، شاهرًا سيفه، تعتلي وجهه ملامح الهيبة والإصرار، وهو يردّد بنغمةٍ هادئةٍ وثابتة، النشيدَ الوطني الياباني. أمام هول المشهد الزاخر بالسّمو والبطولة، انسحبَ آبي وتركَ قبطانه يلقى مصيرًا ارتضاه لنفسه، طلبًا للعلا والمجد.
آهٍ يا لها من صورةٍ تنزّ رجولةً ووطنيةً وسموًا وعنفوانًا. أين رجال اليوم من الكابتن ياناغيموتو؟ يا ويلنا من بعدك. انقرضَ الرجال… إلا هناك، على الخطوط الأمامية، حيث تُسطّر الملاحم والبطولات، ويُدحَر الاحتلال، وتُبنى الأوطان...
أفت. أصابَني الصداع. سأتناول حبّتَي بانادول.
إنّه فعل السّرد، يحوّل الكارثة إلى قصيدة، والزوال إلى بقاء، وفراغ الموت إلى حفلةٍ من المعاني السّامية.
لكن فعلًا، للسّفن مَن يحبّها أيضًا. فلنحتفظ بهذه الفكرة، تظلّ أجمل من صوت ياناغيموتو يغنّي النشيد الوطني الياباني.
أخبرَتني ريما ليلة أمس أنّها منذ بداية الحرب لم تسمع أيًا من الغارات الإسرائيلية، لكنّها تسمع قذائف البوارج الراسية قبالة بحر بيروت. الفكرة شاعريّة، لكنّها لا تغريني على الإطلاق.
أما في معركة ذات الصّواري عام 655، فانتصر المسلمون على البيزنطيّين. ربّما لذلك تخشى القوّات أفواجَ النازحين وأمواجهم - وما تكديس الأعلام على صواري الأشرفية إلا تبوّلٌ إراديٌّ يحمل رسالةً واضحة: مهما تكن الظروف والأوضاع، هناك دومًا بادجت كبير لشراء الأعلام الحزبية.
عزيزي جُنيد،
مسألةٌ أخرى أعود إليها باستمرار منذ درسناها في صف الفلسفة العربية في البكالوريا، هي مثال "الرجل الطائر أو المعلّق في الفضاء" لابن سينا، وهو أحد أبرز براهينه على وجود النفس البشرية. فحوى المثال أنّك حتى لو وُلِدَت معلّقًا في الفضاء، مغمض العينَين، أطرافك جميعها متباعدة، لا تلامس بعضها بعضًا، ولا تلامس أيّ شيءٍ حولك - ستظلّ تُدرك في قرارة نفسك أنّك موجود.
والحقيقة، عزيزي جُنَيد، أنّي لا أعرف كيف عرف ابن سينا ذلك، إلا إذا كان وُلد طائرًا أو معلّقًا في الفضاء، وهو أمرٌ مستبعَد، أو أقلّه، لا دليل لدينا عليه.
أفكّر أحيانًا أنّ كمًا هائلًا من علم الفلسفة والمنطق، وحتى العلوم الطبيعية، ما كان ليكون أسطوريًا ولا منطقيًا، لو أدرك رجاله العظماء، أنّ إحساسهم وتجاربهم لا تختصر أحاسيس جميع البشر، وأن ليس بوسعهم استخلاص البراهين بناءً على تجاربَ متخيّلة، مهما كانت أدمغتُهم عظيمة.
في الحقيقة، عزيزي جُنيد، أنا أفضّل الأساطير. الأساطير لا تدّعي القداسة، ولا العظَمة، ولا المعرفة الكلّية - وكما هذه الرسالة، لا تطمح إلى أن يؤمن بها أحد. هي موجودة، نأخذ منها ما نشاء، ونترك ما لا نشاء. نُعيد تفسيرها وكتابتها وسردها على مرّ الأزمنة، من دون أن تشعُرَ بالإهانة أو الانتقاص من مكانتها. تستمرّ بقِطَعٍ متبدّلة، لكنّها لا تفقد قيمتها وجماليّتها. أحبّ في الأساطير التواضع والعمق، عمق لا تدّعيه لنفسها حتى. معقول مثلًا، كم هي جميلةٌ أسطورة أورفيوس ويوريديس - ذلك الحبّ الذي يقودنا إلى الجحيم سيرًا على قدمَينا بحثًا عمّن نحب. أو أسطورة إيكاروس الذي سقط من السّماء إلى موته بعد أن حلّق قريبًا من الشّمس، فأذابَت جناحَيه المصنوعَين من الشّمع.
آهٍ كم هي مذهلة هذه الأساطير، عزيزي جُنيد. لكنّ أكثرها إذهالًا، من دون منازع، هي أسطورة الانتصار الآتي لينتشلَ الإنسان من مآسيه: الانتصار على العدوّ، الانتصار على الخوف، الانتصار على القدَر، الانتصار على الرغبة، الانتصار على الموت… كيفما قلبتَها، ثمّة حاجةٌ بشريةٌ ماسّةٌ إلى تحويل الخسارة إلى انتصارٍ على شيءٍ ما. طبعًا لستُ أخبرك بما لا تعرفه. نحن كائناتٌ مثيرةٌ للدهشة وللشفقة في آن. نفضّل قعر الانتصار على قمّة الهشاشة. وكي لا نواجه الفقدان، والضعف، والخوف، ونقد الذات، نتلطّى بالوهم. ماذا نفعل من دون الوهم، عزيزي جُنَيد؟ بأيّ قلوبٍ نعيش؟ كيف نفرح من دون بابا نويل الذي سيأتي حتمًا في نهاية كلّ عام؟
الوهمُ يخيّم بظلاله على أجنحتنا الهزيلة، فيَقيها نور الشّمس. فليكُن الوهم سيّدنا، إن كان سيَقينا الوقوعَ من علٍ والاستفاقة على حقيقةٍ قد لا تُعجبنا ولا نُعجبها.
عزيزي جُنَيد،
مذ نويتُ كتابة هذه الرسالة، قرّرتُ ألا أخوض في يوميّات الحرب المملّة التي نعرفها جميعًا، ولا في موقفي العامّ من هذه المعركة وما قبلها وما بعدها. تلك مسائل كبيرة ومهمّة جدًا، أكبر منّي ومنك. فلنتركها للقادة العظام، الأحياء منهم والعِظام. أما نحن، فلنلتفِت لهمومنا الدنيوية الصغيرة مثل المأوى، والمأكل، والملبَس، والمشرَب، والقطط. نورَس تموء لأنها تريد الطعام، ونرجس تموء لأنها تريد الحنان، وأنا أريد الاثنين معًا، لكنّي لا أعرف بعد كيف أموء.
محزنٌ جدًا كلّ هذا الموت. القصديّ منه والعبثيّ.
لا. في الحقيقة، عزيزي جُنَيد، لن أكذب عليك ولا على نفسي. أنا لا أشعر بالحزن على الموت. لطالما أخافَني هذا في نفسي. الموتُ يُثير فيّ أفكارًا وتخيّلاتٍ كثيرة، لكنّ الحزن ليس أحدَها. الحزن يأتيني في لحظاتٍ غريبة، كأن أمرّ بجانب حائطٍ حجريٍّ قديمٍ، وأرى زهراتٍ وأعشابًا صغيرةً تكافح للبقاء في وجه العاصفة الأولى؛ أو أن أرى طفلًا ينتعل حذاءً أكبر بكثيرٍ من قدمَيه الصغيرتَين؛ أو أن أعجز عن تبيّن مكان بيت الطفولة ومدرستي في الضاحية بعد أن استحالَت كومةً من الركام المعجون بالجرذان والنار والبارود؛ أو أن أرى بيروت تستحيل زجاجًا ورمادًا. لم أستطِع أن أبكي حرب تمّوز إلا يوم عدتُ إلى الضاحية ولم أعرفها. لم أستطِع أن أبكي 4 آب إلا بعد أربعين يومًا، عندما حملتُ نفسي على المشي في شوارع بيروت المشظّاة. موتُ الأماكن يؤلمني أكثر من موت البشر.
ما زلتُ أحاول أن أفهم وقع الموتِ في نفسي. ربّما يعود ذلك إلى أنّي شهدتُ أوّل موتٍ عندما كنتُ أبلغ من العمر 11 شهرًا، يوم توفّيَت جدّتي في الغرفة المجاوِرة لي في المستشفى. لا بدّ أن الموت بدا لي عاديًّا جدًّا يومها، كحليبِ أمّي - مع أنّها توقّفَت عن إرضاعي بعدها، إذ استحال حليبها سمًّا بسبب الحزن. هل يبدو لك الأمرُ منطقيًّا؟ هل اعتاد جميعُنا صورةَ الموت؟
"لسنا أرقامًا". طبعًا. "انظروا إلى وجوههم". طبعًا. قولوا أسماءهم. طبعًا. طبعًا. طبعًا.
لكنّ كلّ هذا لا يُغيّر من عاديّة الموت وطبيعيّته. وليسَ في هذا ما يبعث على القنوط أو اليأس، عزيزي جُنَيد. بكلّ صراحة، الموتُ يُثير فيّ رغبةً شديدةً بالحياة.
سأخبرك بشيءٍ آخر أيضًا: أنا لا أشعر بالذّنب لبقائي على قيد الحياة. هذه حقيقة ٌ أخرى. لن أكذب عليك. الشّعور بالذّنب شعورٌ غريبٌ عنّي. لا أوهام لديّ بأنّ موقفي أو رأيي أو شعوري سيبدّل مصير سنبلةٍ واحدةٍ في الجنوب، أو في غزة، أو في البقاع، أو في بيروت. لم ولن يطلب رأيي أحدٌ لا في بداية هذه الحرب، ولا في نهايتها. لن يكون لي سوى قصّتي أنا في وجه التاريخ والموت.
وفي وجه الموت، أُشهِرُ الحياة، كما شهَر ياناغيموتو سيفَه، لأُنشدَ الشِّعر، وألاعب ليمونة، وأساعد بقدر ما أستطيع، وأمارس الحبّ، وأخطّط للعام المقبل. الشّعور بالذّنب شعورٌ غريبٌ عنّي، لحُسن الحظّ، ربّما.
عزيزي جُنَيد،
قد لا أعود إلى قريتي في العام المقبل. أو الذي يليه. ومع أنّي لم أزُر ضيعتي منذ سنين طويلة، إلا أنّي كنتُ أعرف مكانها جيّدًا، وأعرف أنّها بانتظاري وقتما أشاء. قريتي التي تُغفلها كلّ الخرائط، إلا خرائط الاحتلال. رأيتُ قريتي للمرّة الأولى وقت تحرير جنوب في أيّار العام 2000. لا أذكر التاريخ بالضبط، لكنّنا وصَلنا إلى القرية وسط ظلامٍ دامس. لم تكن الكهرباء وصلَت إلى ضيعتنا بعد. ركَن عمّي السيّارة في شارعٍ ترابيّ صغير، وترجّلنا جميعًا. "هذا بيت جدّكم"، قال، بنبرةِ مَن لا يصدّق ما يقول. حاولتُ تبيّن شكل البيت، لكنّ الظلام أعجَزني. جلستُ على الدرج الصغير أمام بوابة البيت الحديديّة، وشرعتُ أحفر التراب بأصابعي، في انتظار شروق الشّمس. لم أستطِع النوم. أردتُ أن ألتحِمَ بأرضي بأيّ شكلٍ كان. هذه أرضي إذن. هنا وُلِدَ أبي، وعمّاتي، وأعمامي، ببُنيتهم الهزيلة ووجوههم الصّلبة. هذه أرضي إذن، التي كانت جدّتي تحلم بها كلّ ليلةٍ، بعَينَيها المطفأتَين، وتحدّثنا عنها كلّ نهار، وتصرّ على قطف زيتونها وزيتها كلّ عامٍ رغم أنف الاحتلال. هذه أرضي إذن. هذه رائحة هوائها، وهذا شكلُ ظلامها، وهذا طعمُ ترابها. ذقتُ كمشةً منه. كانت الفكرة شاعريّة، لكنّ الطعم لم يكُن مغريًا.
ضيعتنا تقع على الحدود مباشرةً مع قرى الجليل المحتلّ، ولبنانيّتنا كانت محض صدفة. ما إن بانَت شمسُ اليوم التالي، حتى صعدتُ وأولاد أعمامي إلى سطح منزل جدّي، وكان أوّل ما رأيتُه على الضفّة المقابِلة لنا: فلسطين. هذه أرضي إذن. هذا هو شكل شمسِها.
عزيزي جُنَيد،
بعد التحرير، لم ننتقل للسّكن في الضيعة، كما فعل آلاف العائدين. بقي أهلي في الضاحية، لكنّهم نزحوا مرّتَين، مرّةً في حرب تمّوز 2006، وأخرى في هذه الحرب التي لم يتّفقوا على اسمٍ لها بعد. كنّا نزور الضيعة في الصّيف فقط. لكنّ أمّي أخبرَتني منذ يومَين أنها وأبي ينويان ترك الضاحية والانتقال إلى ضيعتنا بعد أن تنتهي هذه الحرب. بدَت لي فكرتها وسيلةً لاستبعاد أيّ احتمالٍ لاحتلالٍ جديدٍ قد يطول، أو للا عودةٍ جديدةٍ تأكل سنيننا الآتية. بدَت لي خطّةً استباقيّةً تُشهرها وأبي في وجه أيّ إمكانيةٍ لحرمانهما من أرض الجنوب.
"لا يمكن العودة إلى الضاحية قبل أربع خمس سنين"، قالَت أمّي. "صحيح"، أجبتُها.
"سوف نعود إلى الضيعة، نُصلِح الزجاج المكسور، ونبني حمّامًا شتويًا جديدًا"، قالَت لي بثقة. "فكرة عظيمة"، أجبتُها.
لم أفهم يومًا المشاعر الوطنيّة، لكنّي أفهم تمامًا معنى العودة إلى الأرض، والإمساك بها. هذه أرضي إذن. وهذا هو حلمُ العودة إليها.
عزيزي جُنَيد،
لديّ صديقٌ من الطفولة لم أرَه يبكي يومًا. قصدَ الضاحية منذ أيامٍ ليُعايِن بيت أهله في الرويس. قال لي إنّه لم يعثر على الطريق كي يصِل، لكنّه صادف عشرات القطط الجائعة والعطشى، فأطعمَها وسقاها، ثم غادر. هذه ضاحيتنا إذن. وهذه هي قططها.
عزيزي جُنَيد، لا بدّ أنّ رسالتي أصابتك بالصداع. خُذ حبّتَي بانادول، وحاول أن تنام قليلًا.
تصبح على خير،
هاشم.