الرسالة 8: تنظيم؛ مقاومة؛ حُبّ: رسالة إلى عُمّال العالم



رسائلُ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ 8: تنظيم؛ مقاومة؛ حُبّ: رسالة إلى عُمّال العالم

من: هند حمدان
إلى
 الاتحادات النقابية ومنظّمات حقوق العُمّال؛
إلى ممارسي/ات العمل التنموي والعاملين/ات في القطاعات الانسانيّة؛
إلى كلّ العمّال والعاملات المعنيين والمعنيات حول العالم؛ 
إلى النفوس الروحانيّة والعاملين/ات لأجل النور،


*الترجمة للعربية: أريج شريم

عزيزاتي وأعزّائي،

بدأت رسالتي تكتب نفسها خلال أيّام تشرين الثاني الممطرة من عام 2024 حين كنّا نشهد على تفاقُم الإبادة الجماعيّة في غزّة وعلى ارتفاع مستوى وحشيّة الحرب الاسرائيليّة على لبنان. شعور بالغضب ممزوج بالألم والإحباط كان ينمو بداخلي. كان عليّ أن أعبّر، ومن خلال هذه الكلمات تجنّبتُ انفجارًا داخليًّا. وها هي الرسالة تُنشر بعد أشهر عديدة، ولا يزال موضوعها يتماشى مع الحسّ بالواجب الذي كان خلف كتابتها منذ البداية. بعد أشهر عديدة خفّ ثقل مشاعري إلى حدّ ما، لكنّها بقيت متجذّرةً في أعماق روحي، الأمر الذي يعَدُّ في نظر الروحانيّة التحويليّة، ذو أثر أعمق. 

نسيت لمدّة من الزمن كيف أبتسم، ولا يمكنني أن أشرح كيف أنّ نسيان فعل الوجود البسيط هذا: الابتسام، يترك الإنسان بلا حيلة. أكتب لكم هذه الرسالة بعد أن قرأت مبادرة مسرح زقاق ’’رسائل من فوق الأرض‘‘. الرسالة الأولى كانت بعنوان ’’ممّا تبقّى‘‘ وقامت -بشكل مجازيّ- من تحت الأنقاض. في ما تبقّى احتمالات لا متناهيةٌ لعالم مختلف. في ما تبقّى يقع الحبّ في صُلب كلّ الأفعال. الذي أتكلّم عنه هو الحبُّ الجذريُّ، ذاك الحبُّ الذي يرفع الجبال ويغيّر الواقع. الحبُّ الكُلّيُّ الذي لا يجزَّأ. الحبُّ الذي يهزّ أركانَ أنظمةِ اللاعدالة ويَلِد ثقافات الرعاية. الحبّ الذي يستعيد قوانا المتداخلة والمتّحدة. حقيقةً، هو الحبُّ الأَوْحَد. 

نسيت كيف أبتسم حين كنتُ بالكادِ في الثامنة من عمري. في 18 نيسان 1996 استيقظت على صور مجزرة قانا الأولى1 التي ارتكبتها إسرائيل مع ’’جيشها الأكثر أخلاقًا‘‘ في المجرّة -المفارقة المؤلمة حدّ السخرية أنّ مجزرة أخرى ارتُكِبت في قانا في العام2006.2 في خريف العام 2024 دمّرت إسرائيل -مُتعَمّدةً- مركز المدينة والعديد من المنازل والمباني السكنيّة، وتركتها نازفةً تحمل في رحمها ذاكرة المجزرة الأولى التي خلّفت صدمةً لها ولأولئك الذين واللواتي أحبّوها وأحْببْنَها.

نسيت كيف أبتسم حين أخبرتني صبحيّة -مربّيتي، التي أخْلَتْ عائلتُها قرية صفد في فلسطين المحتلة إلى لبنان إثر النكبة ساعيةً إلى اللجوء- عن مجزرة دير ياسين قرب القدس في العام 1948، عندما اقتحمت القرية الميليشيات الصهيونية وقتلت ما يزيد عن مئة فلسطيني وفلسطينيّة بدمٍ بارد. صبحية فتحت عينيّ على شكل طفولتها قبل أن تُخلي قريتَها وعائلتها إلى لبنان. كانت طفلةً، تمامًا كما كُنت. ورغم البعد الزمني الفاصل بين حياتي وحياتها، ما تبقّى هو حقيقة واحدة: العيش تحت الاحتلال نفسه ومع كيان الاستعمار الاستيطاني. قضت صبحيّة كلّ حياتها في النزوح بعيدًا من أرض أسلافها، محشورة في اكتظاظ إحدى مخيمات النزوح المنتشرة على طول لبنان. سأترك الخيال لكم لتعرفوا معنى أن تبقوا معلّقين على حبال انتظار العودة إلى الوطن دون أن تستقروا كلّيًّا لأنّ الأمنية الوحيدة التي ترغب بها نفوسكم هي أن تكونوا حيث تنتمون طبيعيًّا. 

هذا الخريف نسيتُ أيضًا كيف أبتسم بينما أصحو كلّ يومٍ على صوت الغارات التي تمزّق الأحلام والبيوت؛ تمحو الذكريات. أسمع صوت الطائرة الاستطلاعيّة التجسسيّة ليلًا نهارًا -ذاك الصوت الذي يذكّرني باستمرار بأنني مرئيّة ومسموعة. هو الرَّصد المطلق. أستيقظ على أخبار مجزرة أخرى في غزة. مجزرةٌ أخرى في جنوب لبنان. أخرى في بعلبك. أخرى في البقاع. أخرى في الشوف. في جبيل. في عكّار. مجزرة أخرى في منطقة سكنيّة تستقبل النازحين. لن أُحصي تلك المجازر التي تحدث في غزة إذ سيتحوّل لون الرسالة إلى الأحمر. 

تخيّلوا كلّ هذه الناس التي تملك حياة مثلكم وتعيش أحلامًا وآمالًا وصراعات داخلية. خسرَتْ صديقتي سارة صيدليتها في الحرب الأخيرة على لبنان، خسرت سبل عيشها ومنزلها ووجدت نفسها نازحة مع أطفالها وزوجها تعيش عند عمّتها التي قُتِل ابنها في غارة اسرائيلية في تمّوز. عماد، صديق آخر استقبل والديْه المسنَّيْن اللذين ما زالا يعيشان في حاجة وفي شعور بالخسارة، حادٍّ لا يُداوى، بعد أن هجّرتهما إسرائيل من أرضهما. جميلة التي تعمل طبيبة طوارئ شهدت مباشرة على فظاعات صارت زائرتَها الليليّة في نومها. خسرت أخاها الذي استُشهد. كان مزارعًا في جنوب لبنان الحبيب. ما زالت جميلة تختار أن تقف بجانب مرضاها وأرضها. تخيّلوا، تخيّلوا فقط، أنّني مع كلّ غارة عنيفة أهرع نحو هاتفي لأسأل عنها لأنّها تعمل في إحدى المستشفيات الواقعة في منطقة تتعرّض للقصف العنيف في ضاحية بيروت الجنوبيّة. 

الكثير من هؤلاء خسروا أعمالهم أو لا يمكنهم أن يصلوا إليها بعد أن تهجّروا إلى الجانب الآخر من البلد. معظم هؤلاء الرجال والنساء، في وسط كل هذا العنف، وجدوا الشجاعة والصمود ليتمكّنوا من تأمين دخل ما حتى ولو فقدوا أحد أحبّتهم، أو بيوتهم وأراضيهم. إنَّ وضْعَنا في إطار ’’الآخر‘‘، ووضْع الإعلام الغربي والسياسيين ’’الغربيين‘‘ هؤلاء الناس في هذا الإطار، ما هو إلّا انعكاس للتطرف الخبيث الذي يقف خلف السماح بالإبادة وباستمرارها لوقت طويل. إلّا أنّنا لسنا أطياف أجساد مجهولة. 

الآن تخيّلوا هذه الناس تبتسم. تخيّلوا ما هو خلف ابتساماتهم. كذلك تخيّلوا كلّ الذين نحبّهم والذين فقدوا ذاكرة الابتسام. تخيّلوا ابتساماتهم التي تحمل في طيّاتها كل القصص التي عاشوها وكلّ الذين أحبوهم وفقدوهم ربّما. رغم ذلك ما زالوا أيضًا يحملون في ابتساماتهم قوّة الوجود وحبّهم الوفير. 

ثمّ تذكّرت معنى الابتسامة. الابتسامة هي أبسط وسيلة من وسائل المقاومة، تعبّر عن اللطف والحبّ الجذري. الابتسامة ذكّرتني بإنسانيّتي وبالقيم التي توجّهني. لحظة تذكّرت كيف أبتسم عادت الحياة إلى أوردتي، وتصوّرت جمال وضرورة إيجاد لحظات التواصل والمتعة البسيطة. عندما نبتسم: نقاوم. عندما نبتسم نواجه مضطهدينا ونحتفي بالأرض التي إليها ننتمي. عندما نبتسم نكون. نعيش.

عندما وقف نتنياهو في مؤتمر الأمم المتحدة ووصف محور اللعنة ومحور النعمة، ادّعى أن إسرائيل تقاتل دفاعًا عن كلّ ’’الأحرار‘‘ في حرب ضدّ ’’قوى الظلام‘‘. أرغب في أن أخبركم بأننا نقاتل من أجل الحياة والقيم والانتماء. نقاتل من أجل الشعوب الأصليّة. إننا في مقدمة معركةٍ ضدّ النظام الصهيونيّ الاستعلائي والمهووس بالأرباح والمرتكز على المصالح والفاشي والعنيف في جوهره. 


عزيزاتي وأعزائي،

كلُّنا واحد.

إننا نشهد على ما تعنيه سيطرة الفاشيين على الدول الغربيّة؛ أنظمة قمعية رقابيّة ووحشيّة بوليسيّة وقيودًا على حرية التعبير واعتداءات مباشرة على حقوق الإنسان وشروط عيش وعمل أكثر سوءًا. ألم يحِن الوقت لدقّ ناقوس الخطر ولرؤية مدى تداخلنا؟ ألم يحن الوقت بعد لنرى كيف تخلق الأنظمة التي نعيش تحتها ’آخرًا مُستقطَب‘ وتشيطنه من أجل أن تعزز هيمنتها وتعيد إنتاجها؟ ألم يحِن الوقت بالنسبة إليكم لتقفوا وترفعوا الصوت دون التردّدِ أمام لحظات صغيرة تدّعي الراحة؟ 

ماذا لو لاحظنا أنّ ما يحدث في منطقة معيّنة يتمظهر نفسُه في أخرى، في ظلّ تمويه مختلف، لكن في إطار الطاقة التدميرية العنفيّة القمعيّة نفسها. 

يتضاعف اليوم الشعور بالتداعيات التي لا تُحتَمَل لنظام الإنتاج العالمي. عمالة الأطفال الآخذة في الارتفاع بشكل سريع -والمقبولة نوعًا ما- وتدهوُر ظروف العمل، هي بعض الأمثلة على ما يحمله المستقبل إذا بقيت الأمور على ما هي عليه. رغم ذلك يجري تسليط الضوء اليوم على هذه الأمثلة بشكل كبير، لوجود أشخاص يهتمون بالآخرين وبمستقبل مجتمعاتهم. إنّنا نملك الخيار الذي يجب أن نتخذه بشكل طارئ. 

في عملي مع اتحادات التجارة أسمع قصصًا عن العمل بالسخرة حول العالم، منها الواضح بشكل صارخ في الدول حيث حقوق العُمّال تُنتَهَك علنًا. تختبئ قصص أخرى وتحدث سرًّا في دول تُصنّف نفسها على أنّها أخلاقيّة إنسانيًّا مثل بعض دول الاتّحاد الأوروبي. 

كيف تُعرَّف الاخلاق عندما تبني هذه الدولُ نفسُها معظمَ اقتصاداتِها على بيع الأسلحة لكيان إبادي ولدول تنتهك حقوق الإنسان بشكل صريح؟ كيف تُعرَّف الأخلاق حين تسمح هذه الدولُ نفسُها باستغلال العمّال إلى جانب عرض سلاسل القيمة؟

بالفعل، عندما أفكّر بالعالم حيث أريد أن أعيش، لا يمكنني ألّا أفكّر بمستقبل العمل في ظل تحويل سلاسل القيمة إلى الروبوتات، وبممارسة النظام الراهن تحريضَ العمال ضدّ بعضهم البعض بشكل واضح من أجل كسر القوّة التي يمكنهم تحصيلها في حال قرّروا أن يتنظّموا ويتضامنوا. يُسلخ العمال اليوم عن سبل عيشهم من دون تقديم أي ضمانات لهم ويُستَبدلون بالروبوتات من أجل الفعاليّة. 

رأيت نقابيّي تجارة في الغرب يعملون ليلًا نهارًا ليرفعوا الصوت ضد الإبادة. أُسكِتت أصواتهم وتضررت سُبُل معيشتهم بشكل بالغ. لكنّهم كانوا على وعيٍ بالخيارات المتاحة واختاروا أحدَها. علينا، بالنسبة إليهم، أن نفعل. علينا، بالنسبة إليهم، أن ننخرط. على سبيل المثال، في العاشر من أيار سحب أكبر اتحاد تجاري نرويجي استثماراته من إسرائيل ودعم المقاطعة. 

حقيقة هذا الأمر أننا الآن على مفترق طرق: إمّا أن نقبل بالتخلّي عن بعض الامتيازات المُكتَسَبة وعن أخرى مُحتَمَلة الاكتِساب (التي نعمل جاهدين للحصول عليها تحت النظام الحالي مثل: الجزرة) وأن ننظّم أنفسنا حول القيم التي تستجيب لها نفوسنا، أو أن نقبل الهلاك الذي سيحلّ بنا نتيجة تحوّلنا إلى أشباه روبوتات، حيث نعمل في ظلّ ظروف يزداد سوؤها ومع حقوق أقلّ، من أجل أن نستهلك وندفع الضرائب، كلٌّ في فقّاعته الخاصّة. نقبل أن نستيقظ صباحًا مع تشوّه جزء من أجزاء نفوسنا؛ نذهب إلى العمل ونستهلك، مُدرِكين أنّ الضرائب التي ندفعها تموّل النظام الذي يقمعنا كما تموّل الكيان الذي يبيدنا. 

كِلا السيناريوهيْن يستدعي المواجهة -رغم اختلافهما. أحدهما يقود إلى دمار متبادَل وإلى دوّامة لامتناهية من العنف. الآخر -الذي أنخرط فيه- تمثّل فيه أفعال المواجهة خيارًا ضمن خيارات كثيرة أخرى، يمكنها أن تتداخل، لأن التحرير علّةُ وجودها. 

هنا يأتي وقت الاختيار. 

يوجد خيار واحد مُحتَمل، بلا إنكار. 

أحبّائي وحبيباتي، إنّه وقت الفعل. لديكم تاريخ مُشرّف في التضامن بمختلف الطرق. 

أظهرتم الشجاعة التي في نفوسكم مرات عدّة. 

اليوم أكثر من أيّ وقت مضى نستدعي شجاعتكم. 

بكلمات مايا أنجلو: الفضيلة الأكثر ضرورة في القائد هي الشجاعة، لأنّ الشجاعة تولّد الاستمراريّة. من دون الشجاعة لا استمراريّة في أفعالنا، أو في استدامة فضائلنا الأخرى. 

بحُبٍّ جذريّ،

هند حمدان.



1 وقعت مذبحة قانا في 18 أبريل/نيسان 1996، بالقرب من قانا، وهي قرية في جنوب لبنان الذي كان تحت الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، عندما أطلق الجيش الإسرائيلي قذائف مدفعية على مجمع للأمم المتحدة كان يؤوي نحو 800 مدني لبناني، مما أسفر عن مقتل 106 وإصابة نحو 116 آخرين.


2 ووقعت مذبحة قانا الثانية في عام 2006 خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، عندما أسفرت غارة جوية إسرائيلية أخرى عن مقتل 28 مدنيًّا، من بينهم 16 طفلًا.

Popular posts from this blog

Letter 7: On Nonviolence, Communication and Power

Letter 1: From What Remains

الرسالة 2: …مِنْ قَلْبِ الكِيَانِ